تَساءلَت شركة «دوكيت» ما إذا اتّخذَت قرارًا سيئًا عندما أطلَقَت معرفتها بمصدر مفتوح، ولكن من الواضح أن ذلك القرار كان سرّ نجاحها.
 

من الصعب دائمًا أن نتذكَّر تفاصيل بداية أي مشروع، لكن إعادة استعراض تلك التفاصيل قد تَكشِف عن رؤيةٍ أوضح له. لمّا عُدت في الذاكرة، أدْركتُ أن منصتنا التي تَختَصّ بإنشاء الأدلة الإرشادية والتوثيق «دوكيت»، هي فكرة انبثقت من أيام طفولتي. عّجَّ منزل طفولتي بمجسّمات ميكانو (لعبة تركيب وبناء) ومعدّات بناء طائرات مصغّرة؛ اللعبُ فيها غرَسَ لدي منظور تجميع القطع المفردة لبناء شيء جديد كليًا. عمل والدي في شركة للأعمال اليدوية، لم يخلُ منزلنا من أدوات البناء ولوازم الإصلاح والكُتيِّبات الإرشادية. في صغري، أرسلني والداي للانضمام إلى الكشافة، حيث تعلّمت صناعة الطاولات والخيام والأفران الطينية. صَقَلت هذه التجارب حبّي للتعلُّم المشترك الذي وجدته لاحقًا في حراك المصدر المفتوح.

تَحولَت مهارة إصلاح الأشياء وإعادة تدوير المنتجات التي تعلمتها في طفولتي إلى جزءٍ أساسيٍ من عملي لاحقًا. فطمحت إلى أن أنقل تلك المشاعر المطمئنة التي اكتَسبتُها من تعلُّم الصُنْع والعمل والإصلاح سواءً في المنزل أو ضمن مجموعة إلى العالم الرقمي. ألهمني ذلك تأسيس «دوكيت».
 

الأشهر الأولى

لم يكن الطريق سهلاً دائمًا، لكن منذ تأسيس شركتنا عام ٢٠١٧، تَبيَّن لي أن أهم الأهداف وأكثرها قيمة هي عادةً الأصعب تحقيقًا. أدركنا أن تحديد مهمة واضحة ترشدنا كان العامل الحاسم في بناء استراتيجيتنا إذا أرَدنا أن نُحقِّق خطتنا المُتمثِّلة بإحداث ثورة في طريقة إنشاء ونشر الكتيبات الإرشادية التقليدية، وتضخيم تأثيرنا في سوقٍ علمنا منذ البداية أنه سوقٌ متخصص (niche market). ومن هذه النقطة اتخذنا أول قرار كبير؛ أن نُطلِق نموذجًا أوليًا بسرعة باستخدام إطار عمل مفتوح المصدر موجود مسبقاً (ميديا ويكي)، ثم متابعة ذلك بإطلاق كامل الكود بمصدر مفتوح.

كان القرار أقل تعقيدًا مما تصورنا نظرًا لتوفر بنية ميديا ويكي الجاهزة للاستخدام. بوجود ١٥,٠٠٠ مطور يعملون على منصة توفر ٩٠% من متطلبات منتجنا الأدنى القابل للتطبيق (MVP)، لما كان الطريق سلساً لولا اعتمادنا على المحرك الذي أدار موسوعة ويكيبيديا. تُقدِّم منصة «كونفلونس» (Confluence) —المستخدمة على نطاق واسع في المؤسسات الكبرى— ميزات جيدة، لكن في النهاية كان الاختيار بينها وبين ميديا ويكي قرارًا سهلاً.

وإيمانًا بقوة مجتمع المصدر المفتوح، نشرنا الإصدار التجريبي الأول على «غيت هاب» مباشرةً. وجدنا متعة لا توصف في مشاهدة صانعي العوالم يتبنون منصتنا —حتى قبل أي حملة إعلانية حقيقية— وشعرنا أنها أمارة حسنة ومبشرة. رغم أن حركات الصانعين (Maker) ووُرَش التصنيع (Fablab) تُشجِّع المستخدمين على مشاركة التعليمات، بل وتنُص على هذا في ميثاق وُرَش التصنيع (حسبما ورد عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)، إلا أن الواقع يُظهِر نقصًا حقيقيًا في التوثيق.

السبب الأول والأهم لإعجاب الناس بمنصتنا هو أنها تُعالِج مشكلة حقيقية تتمثل في ضعف التوثيق داخل حركة عظيمة لولا ذلك الضعف، حركةٌ أدركنا أنها قد تكون أفضل مما هي عليه. شعرنا أننا نَسد فجوة في مجتمع الصانعين وهواة الأعمال اليدوية. في غضون عامٍ واحدٍ من إطلاقنا، ثبّتت عدة جهات تطبيقنا على خوادمها بهدف إنتاج شروحات خطوة بخطوة. تشمل بعض هذه الجهات: Wikifab، وOpen Source Ecology، وLes Petits Debrouillards، وAdeme، وLow—Tech Lab.

حتى قبل أن نصدر أي بيان صحفي، تلقّى أحد مستخدمينا —«ويكي فاب» (Wikifab)— إشادة في وسائل الإعلام الوطنية بوصفه "ويكيبيديا الأعمال اليدوية". في غضون عامين فقط، شهدنا إطلاق المئات من المجتمعات على منصات «دوكيت» الخاصة بهم، تتراوح ما بين المشاريع الترفيهية والمسلية إلى الأدلة الإرشادية الرسمية للمنتجات. سأقولها مرة أخرى؛ إن قوة المجتمع هي ما نريد تسخيرها، ويدهشنا دائمًا أن نرى مشاريع —تتراوح من توربينات رياح إلى أجهزة إطعام الحيوانات الأليفة— تُطوِّر أدلة إرشادية جذابة باستخدام المنصة التي أطلقناها.
 

اعتماد المصدر المفتوح

بالنظر إلى أول عامين ناجحين، أصبح من الواضح لنا أن اختيارنا باعتماد المصدر المفتوح كان عاملاً أساسيًا في نجاحنا السريع. قدرة المصدر المفتوح على جمع الملاحظات والتغذية الراجعة لا مثيل لها. إذا كانت هناك مشكلة في جزء من الكود، يمكن لشخص ما أن ينبهنا إليها على الفور. لماذا ننتظر مواعيد مع مستشارين بينما يمكننا أن نتعلم مباشرة من الأشخاص الذين يستخدمون الخدمة التي ابتكرناها؟

كما أن مستوى التفاعل في المجتمع كشف لنا عن إمكانيات «دوكيت» وحجم اهتمام السوق بهذه الخدمة. تتمتع باريس بمجتمع مطورين قوي وينمو باستمرار، لكن المصدر المفتوح وسّع نطاقنا من بضعة آلاف محليًا إلى ملايين المطورين حول العالم الذين يمكن أن يصبحوا جزءًا مما نحاول تحقيقه. شكَّل تحويل الكود إلى مصدر مفتوح ضمانًا للمستخدمين باستمرارية توافر التقنية حتى في حال توقف شركتنا.

وبينما تحققت معظم توقعاتنا من استخدام المصدر المفتوح، فقد كانت هنالك مفاجآت سارة أخرى. من خلال اعتمادنا لأسلوب العمل المفتوح، كسبنا عملاء، وسمعة طيبة، وإعلانات موجهة بدقة دون الحاجة إلى أن نُنفِق الأموال من الميزانية المحدودة لشركتنا الناشئة. كما اكتشفنا أن إتاحة الكود ساعدت في تحسين عملية التوظيف؛ إذ أصبح بإمكاننا اختبار المرشحين باستخدام الكود قبل اتخاذ قرار التوظيف، مما سهّل أيضًا عملية انضمام الموظفين الجدد للفريق.

وفي خليطٍ غريب من الخجل والتضامن، أسهمت الطبيعة العلنية لتطوير الكود في بيئة مفتوحة في تعزيز جودة المُنتَج. رغم قدرة الناس على مراجعة عمل بعضهم بعضًا، إلّا أن الطبيعة العلنية للعمل ترفع مستويات الأداء إلى الحد الأقصى. وفي إطار سعينا المستمر لتحسين طريقة عمل «دوكيت» وتطويرها، نرى أن دعم المجتمع مجال أساسي سنركز على العمل عليه وتطويره في السنوات القادمة.
 

الخطوات القادمة

على الرغم من إيماننا الدائم بما نقوم به، ورؤيتنا للأدلة الإرشادية الرائعة التي طُوِّرَت باستخدام برمجيَّتنا، إلّا أن رؤية مشروعنا يكبر لا زال يثير حماسنا، ونحن واثقون أن المستقبل يحمل لنا الخير في جعبته.

في الأيام الأولى، كنا نعيش تحت هاجس الخوف من نشر معرفتنا دون مقابل. لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ فقد منَحَنا المصدر المفتوح قدرة أن نبني بسرعة مهولة شركة ناشئة مستدامة منذ بدايتها. «دوكيت» منصة مصممة لمنح مستخدميها الثقة اللازمة للبناء، والتجميع، والإصلاح، وابتكار اختراعات جديدة كليًا بدعم من المجتمع. وبأثرٍ رجعيٍ أدرَكْنا أننا كنا نفعل الشيء ذاته حين استخدمنا المصدر المفتوح لبناء منصتنا.

ومثلما يحدث أثناء إصلاح أو تجميع منتج مادي، لا يبدأ الشعور بأن كل شيءٍ في مكانه إلا عندما تكون واثقًا من منهجيتك. والآن، ونحن في بداية عامنا الثالث، بدأنا نرى اهتمامًا عالميًا متزايدًا مع استجابة القطاع للأجيال الجديدة من العملاء ممن يرغبون في استخدام المنتجات، وإعادة استخدامها، وتجميعها بما يتلاءم مع تغيّر المنازل وأنماط الحياة. وعبر توفير الدعم كمجتمع رقمي، نعتقد أننا نساهم في إنشاء بيئة تمنح الناس مزيدًا من الثقة لقضاء حوائجهم بأنفسهم.
 

 



تمت إعادة نشر هذا المقال وفقاً لرخصة المشاع الإبداعي - Creative Commons، للإطلاع على المقال الأصلي